تظل الروح صائمة طيلة العام، عطشى وظمأى، تبحث عن مورد لها يشفي غليل هجرها دربَها، يلوح لها الريّ كلّما انتصف العام، تلهث خلفه وتجري، تتجاوز الشطر، أيام قليلة تفصلها عن وصولها لمبتغاها، تسير ملتحفة كل أملها ألا يفوتها بلوغ الورد، وانقضاء الأجل.
رمضان يا وِرد قلبي، أنتظرك بكل لهف وشوق، وبكل حيرة كل عام أستقبلك، وأستقبل سرّك المكنون، وأسائل نفسي، ما سرّك رمضان؟ تشملنا بكرم خفي، وحب نقي، تئد فينا تمرد النفس، وتمسك بخطامها، لتعيد تشكيلها كطفلٍ صغير، تحسن تنشئته وتربيته، تملأ منه القلب بمداد الكتاب والوحي، فلا يجد مفراً من الانقياد ونفسه التي أهلكته طيلة العام وهي تعانده، وتسير به في مهاوٍ من الردى، وتفقده توازنه الذي يداري تأرجحه بظاهر من الأعمال يبديها لهم، والجليل مطلع وعالم.
بقدومك يا خير الأشهر عند ربي، حل ميقات الفرح، وانطفأت نار إبليس الذي ما كان ليكف محاولاته عنا لولا الله ربي، بقدومك رمضان أمنّي النفس بعظيم إنجاز أحار في عجزي خارجك من القيام به، وأي خور يصيبنا وأنت بعيد، لماذا تنكفئ شمعة الهمة والعزم بعدك؟ لماذا نودّعك كل عام وكأننا نخشى أن نفلت حبل النجاة، فترانا في غيابك نحاول التمسك بطرفه كيلا يفلتنا، ونحاول ونحاول على حرفِ الحياة، حرفِها الحادّ الأليم، نرقب انقطاعك مراقبة من سيهوي في بئر سحيق من أدرانه، ثم تأتي سيارة رمضان لتشدنا خارج جب السقوط، فواعجبي من إلقاء أنفسنا فيه تارة أخرى بعد أن تأفل شمسك خلف الأيام، منتظرة إذناَ سماوياً للعودة من جديد، وسنظل رغم كل سقطاتنا ننتظرك.
زوادة عمري أنت، ليالي الجمال بصحبة الصالحين تتعطر، كم أتوق إلى خطواتي المهرولة في كل ليلة تحملني إلى رياض بيت الله، تصدح الآيات، تذوب العبرات، هناك أنا وأنت يا رمضان ألقى ربي بثوب غير الثوب الذي ألقاه به كل عام، ما رأيت أزهى من حلّتك التي تكسونا بها، أأنت العيد أخبرني؟ كم أخبرونا عن الأشواق الكاويات لتلك القلوب التي تنتظرك في كل عام، عيونها الذارفة تخشى أن تسابقها يد الزمان، فتأخذها على حين غرة ولم يكتب لها اللقاء.
أتدري يا رمضان؟ تعال أخبرك عن تلك القلوب الآنّة، تنتحب بصمت من عبء ورزح البلايا والذنوب، علمت أن بارئها قد سكب عطر نفحاتك في وقت محدد كل عام، تعال أخبرك كم ننتظر تلك السكبات نغتسل بها من أدران ما لحق بنا من عوالق الدنيا البائسة، نعم بائسة، لاستسلامنا واستكانتنا وميلنا وضعفنا، وهطل الخيبات التي أمطرتنا في الحقب الأخيرة، امتدّ زمن الجور يا ربي، وعاثت جرثومة الفتنة في الأرض فسادًا، ووقفنا عاجزين أمام تطورها وتنوع جيناتها واستغلال المفسدين في الأرض لها، وقفنا بضعفنا نتأمل ساكنين انهدام قلعة أرواحنا لبنة لبنة، نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، فيا ربي هيئ لنا رشدا كالرشد الذي أضأت به قلب الحبيب وثبّتنا.
رمضان أقبل، سأمطرك بإذن الله فرحًا يوازي ظلمة الأيام التي كستنا، سأرسم بالفأل أيامك، وأمد يدي لأعاهدك، هذا عهد جديد مني ولو نقضته سأعود لإبرامه، فلا مناص لي إلا أن أغلبها بعون ربي، وبأمر ربي، وبمدد ربي، وبجود ربي، على خجلي ستظل يدي ممدودة، وسأظل أجد المحاولة، سأبلغ مراتب الصالحين، وآخذ بيدي عبادَك المسلمين، نسير أفواجًا وأفواجًا، نخترق الصفوف، وبكل عزم ندخل جنة رمضان من جديد، يا مرحباً بك، يا مرحبًا بلياليك ونهاراتك صيامًا وقيامًا وترتيلًا، فاللهم عونًا، فاللهم عونًا، أتيناك مقبلين فلا تردّ مسعانا.